كنت ديمه نحسّ اللي ثمّه صِــلة ما بين روحها المبثوثه في جوّ الحومه ، و بين روبتها الاعتيادية اللي يبدو انّها ما ترتاح كان فيها هيّ . روبه بسيطه ، سهلة الملبس ، واسعه فيها برشه تـْـكامش ( بْـليـّات) من جهة الصّدر و تهبط منفتحه مرتاحة متداعية تزداد اتساعا كلّما تدلّت الى اسفل ، مــُـعلنة عن اتساع قلبها و رحابة صدرها و قابليتها لاحتواء الجميع.
ما نّجّمش نتخيّلها من غير ما نتخيّل عـْـصَابتها السوداء اللي كانت تكبسها على راسها و جبينها ، تاركة المجال لبعض طـْـعاطش الشيب المـْـحـَـنّــِـية المتحررة من تحت العـصابة من جهة نواظرها باش تشوف النور. و اللي تحتها يستدير وجه ضاحك يخفي ، رغم تجاعيدو ، جمال قديم
ريحتها ديمه مزيج من الحـِـنّة و الفلفل الشايح و السـّخاب و البخور و الحطب المحروق و القطران و العجين ، يعني انّجّمو نقولو اللي خالتي فاطمه الجّريديّة ، و ارتكازا فقط على ريحتها و ريحة روبتها و بيتها ، متصدّية و محتجّه على احد اهم اخطارالعولمة : التدجين والتنميط الثقافي اللي يحب يجعل من العالم الكل كعبة هامبورغر
يعني
خالتي فاطمة الجريدية ، كانت هي المزوّد متاع البخور في الحومه ، و موش ايّ بخور ، البخور الجريدي بالتحديد اللي معروف بريحتو العتيقة المستحبّة ، الوصفة و الدّوزاج و قدّاش يلزمو "صـِـرْغـِـين" و "قــْـمارِي" و "غـَـبرة ْ مـِسْـك" و "عــُـود قرنفل" و "حبّة مـِســْــتــْـكه" ... الخ ، بالطبيعة مع حاجات اخرى سرّية ما تعرفهم كان هيّ ، و هاك الاعواد و هاك الجزيئات النباتية المجفّفه هاذيكه الكل ، قدّاش يلزمها تبقى مرنّخه في نوع معيّن من العطر باش تـتـْـشـَـرّبـُـو مليح مليح بشكل انّو في حالة احتكاكو بالنار يخرّج هاك الدخان المعطّر : البخور.
بعد ما تكمّل الخلطة هاذيكة و تخلّيها تشيح (في الظّلّ و من المستحسن بعيد على الضّو كيما تأكّد هيّ) نتصوّر انّها تصلّي الظّهر و الا العصر ، و تعمل سويقــر.
قلت تعمل سويــقر ، علني موش سرّي ، على خاطر، في ثقافة الجـّريد القديمه ، ماكانش عيب على النساء المسنّات الجريديات انّهم يدخّنو ، و كان ثمّة اعتقاد في انّو سيقارو من ساعه لساعة ينحّي القاز ، (او كيما يقولو هوما : ،الهـَـوَا )و يخفّف من ضغط الدّم ، و ينحّي وجيعة الرّاس ، و بطبيعة الحال التعلّة الصحّية هاذي كانو يحبّو يتخفّو وراها باش ما ياقعش اتهامهم بالتشبّه بالرجال او بالتسيّب ، بل بالعكس ، كانو العزايز اللي يدخّنو يتصنّفو في خانة الـ ـ"رّ ُُقـّـِـي" ، و الـ"فينو" بالقياس مع لخرين اللي يستعملو في النـّــفـّه . و اللي كانو موضع تندّر و تقزّز من طرفهم .ـ
بعد السويقر ، تبدا في الخلطة الاخرى : الهريسه العربي ، و للهريسه العربي و الفلفل الشايح عند خالتي فاطمة حكاية .. حكاية تشكيل و تلوين .. حقيقةً ً حاجة اخرى.ـ
خالتي فاطمه الجريدية ، و برغم اللي دويرتها صغيرة و بابها ضيّق ، عكس روبتها و قلبها الواسعين ، الا انّو في موسم الفلفل الاحمر، تـُـدَقّ المسامر الكبار في اعالي الجدار الخارجي المقابل للشمس متاع دارها ، و عينك ما تشوف الا الفلفل الاحمر هابط عراجن عراجن .. شماريخ شماريخ .. أكاليل أكاليل ، كعبة بحذا اختها بالخلاف، من اعلى الجدار حتّاش لقريب الارض ، و كي تنعكس فيها اشعة الشمس تولّي تشعل شعلان .ـ
حيط دارها يولّــي بكلّو احمر ، محلاها التصويرة ، قداش فيها جهد بشري و تعب و صراع يومي و تمسّك بالحياة و رغبة في اسعاد الاخرين ، و قدّاش فيها زادة جماليه تشكيلية عفويّة.ـ
بالطبيعه الفلفل هاذاكه من بعد ما يتشرا ، يتغسل و تــتـْـنحّى منّو القرون الفاسدة و الخامجة و المعلوله ، و ياقع نظمو في خيط كيما العقد الكبير اللي تزيّن بيه رقبة دويرتها ، من بعد تتنحّى زرّيعتو و يترحى ، شي يتبسّس بالزيت و يتباع هكاكه ، و شي ما نعرفش اش تزيدو باش يولّي هريسه عربي.ـ
بحكم اللي دارها كانت مقابله دار الوالد القديمه ، الدهشة اللي انتابتني اوّل مرة نتفاجأ بهاك الجدار المـُـتْـرع بحمورية الفلفل ، تشبّه لدهشتي اوّل مرّة يصبّ فيها الثلج بكميات كبيرة في بلادنا ، وقت اللي حليت باب الدار ماشي للمكتب و نلقى الدنيا الكل بيضه.ـ
ها أنّ الجدران ، عند خالتي فاطمه ، تتّخذ طبائع اخرى غـير تلك التي خـَــَبـِـرناها عنها من صّمت و خرس و جمود و موت ، ها أنّها تحمرّ خجلا او سـُـكـْرًا أو غضبا أو حـُـبـّـاً، ها أنّها تنزف دمـًـا ، و من حين لآخر ، و مع كلّ هبّة ريح خفيفة ، تتحرّك تلك الشماريخ ، محدثة خشخشة لطيفة المسمع إثر احتكاكها بطوب الجدار العتيق ، فتبدو كأنّها شعاب من المرجان المتموّجة .ـ
جاش وقيّت ضربان الملسوقه ؟
الملسوقة متاع خالتك فاطمه ماخذة صيت كبير على خاطر مازالت تعمل فيها بالطريقة الزّمنيّة يعني على الكانون و الجّمر ، من غير ما ننسوا كعبة القارص اللي ديمه محطوطه بشكل متجدّد في الكانون للوقاية من الزنزانه
كانت زاده من امهر صانعات السـّـخاب ، و للي ما يعرفوش السّخاب ، هو عجين من عدّة نباتات طبيعية فوّاحة تـُرحي و تمزج بنوع خاص من العطورات و تشكّل في شكل مثلثات صغيرة يقع ثقبها من الوسط و تجفيفها و نظمها بشكل متناسق و تناظري مع الخرز البلّوري الملوّن و بعض الاشكال الصغيرة من الفضّة و المرجان ، للحصول على عقد ملوّن و فوّاح ، و كان للسخاب دور مزدوج ، التزيين بوصفو يتلبس في الرقبة ، و التعطير بحكم انّو قدّ ما يشيح قدّ ما تولّي ريحتو مقبوله اكثر .ـ
بالنسبة لصنع السخاب ، السنين الاخيرة نْـقـُـص صـُـنعْـها ليه على خاطر ما عادش مطلوب برشه كوسيلة زينه للنساء ، لكن هاذا ما يمنعش اللي مشهد خالتي فاطمة و هي بصدد اعداد و عجن خلطة السخاب ، من المشاهد المنقوشه في ذاكرة طفولتي ـ على خاطر كنت نحير في هاك البارادوكس متاع العجين الاسود اللي يشبّه للـغـْـرَمْ (الحمأ المسنون) لكنّ في المقابل ريحتو فوّاحة واكثر من هاذا ، هو معدّ للزينه ، البارادوكس هاذا هو اللي كان محيّرني شويّة ، و هو اللي خلّى المشهد ما ماتش فيّ.ـ
وقت اللي كانت تجبد القربه
المتحجّرة و المتصلّبة طيلة مخبئها الشتوي الجاف ، و ترنّخها في الما باش تـَـطـْـرا ، و تصبّلها كمّية محدّدة من القطران في داخلها ، وقتها نشمّـو ريحة الصـّيف... و كأنّو الصّيف كان متخبّي مع القربه هاذيكة في نفس المخبأ الشتوي.
حضور خالتي فاطمة في الحومه ماكانش فقط لتأمين الاكتفاء الذّاتي في البخور و الفلفل ... الخ ... بل كانت مأمن اسرار الجميع ، و تلعب احيانا دور الخاطبة ، او مجرّد لفت نظر شاب من شباب الحومه الى فتاة معينه بايعاز من امّ الفتاة او احيانا بإيعاز من الفتاة نفسها ، كانت هي مرسال الجارات المتخاصمات لبعضهن البعض ، و كانت رسولة الصلح بيناتهم ، رغم انّها احيانا ما تنجحش في التحلّي بالحياد اللازم لمثل هالمهمـّات ، و تتورّط في انحيازات معينه ، و وقت اللي يغصروها ، تـُـقـْـسم لا عاد تدخل هالمداخل ، و بطبيعة الحال ، ما تنجّمش تكون في مستوى قـَـسـَـمْـها ، على خاطر الكفّ على لعب هالادوار بالنسبة ليها ، يعـني الموت
انتشار روح خالتي فاطمة في الحومه كان يسمحلها بصفه حصريّة انّها تسألنا نحن الاطفال اسئلة فضولية غير مكترثة بتذمّرنا منها و استنكارنا ليها ، : شنوّة فطوركم اليوم ؟ شكون هاك الجماعه اللي جوكم البارح ؟ باباك عندي مدّة ما نيش نشوف فيه ، ماو لاباس ؟ وين مشى ؟ طلــّش بحذاكم عمّك فلان ؟ و خالتك فلتانه علاش جتكم هاك النّهار ؟ وش جابتلكم في هاك القفّة ؟ الخ ...ـ
و كانت هي الوحيدة اللي نتعاملو مع اسألتها الفضولية هاذيكه بأريحيّة ، كانت تسألنا الاسألة هاذيكه بصوت مرتفع ، و مرتفع جدّا ، ما كنّاش نحسّو في اسألتها حتّى طابع سرّي و الا استنطاقي خبيث ، من نوع التلصّص و الا التنسنيس ، و حتى كيف نتذمّرو احيانا من اصرارها بكل ثقه على انتزاع الإجابات منّا ، كنّا نتذمّرو بشكل سرّي ، وما نلقوش تأييد عائلي لتذمّرنا هاذاكه من امهاتنا ، يمكن على خاطر الكلّهم كانو يتقرّبولها نظرا لطاقتها الخـَـدَمـَـاتيّة ، فيلزمنا احنا زاده نكونو مطيعين ليها ، و ما نتذمّروش من اسألتها الفضوليّة
و بطبيعة الحال ، الاستنتاج هاذا استنتجتو كيف كبرت ، و عرفت اللي خالتي فاطمة كانت تستمدّ في شرعية اسئلتها الفضولية جدا ، من احساسها باللي الحومه الكل بما و من فيها ، متاعها ، ملكها ، الكلهم بناتها و اولادها و اخواتها الصغار
الكلّهم ماكلين من فلفلها المخدوم و المشيّح و المرحي بغناية و بنظافة فايقة
الكلّهم رمضانهم ما عندوش طعمه من غير ملسوقتها المخدومه عالجمر و عالكانون الطّين
الكلّهم رجالهم ما ينفحوش فيهم و ما تشعلش فيهم الشهوة الّا ما يكونو مبخّرين بالبخور الجريدي اللي هيّ عاملاهولهم
شرارات الحياة اللي كانت تبثّ فيها المرا العظيمه هاذيكه في الناس و في القلوب و في هوا الحومه ، انطفأت منذ ايّام
تاركة مكانها سيطرة رائحة الغبار و الكهرباء و دخان السيارات و السرفاسار و البلاستيك على جو الحومه
و اهمّ و اجمل حاجة باش نتحرمو منها الى الابد ، بعد رحيل هاك الروح اللي كانت منتشرة بشكل انساني لا مثيل له في الحومه ، هي منظر/ لـَـوحة اكاليل و عراجين الفلفل الاحمر، المرجاننيّ المتموّج ، المنظوم المتدلّي على جدران منزلها النازف.. الخجول… الثّمل.. العاشق .. تحتضنه شمس الخريف .ـ
سوف لن يندهش طفل آخر لذلك المشهد الجميل ، و تمتزج في مسامّ انفه رائحة الفلفل برائحة البخور و الليمون
المحترق في كانون الجمر ، محدثة سنفونية رهيبه ، نابضة لا بالاصوات ، بل بالروائح و بالألوان
******
لمن يريد الاطلاع على "حكايات الحومه القديمة 1 " اضغط ( هنا )ـ