نفس الربيع هاذاكه .. اللي شيّخ الناس و الحيوانات بالخضوريـّـه و الخيرات و الحشيش و الهواء الفرشك .. و خلاهم يشربو و يسكرو على نخب حب الحياة .. كان يخبّي لعنات شنيعة .. اوّل من تصاب بيها : محبوبه .. هاك الزهرة اللي بــتفتـّحها قبل وقتها ، أربكت و أزعجت و أحرجت كل ما كان يحيط بيها/ يحاصرها.. من اكداس الرمال الجافة ، و طبقات الغبار الخانق ، و مزيج الجهل و العقد و الوهم و الخرافة .. اللي كانت معشّشه في الجماجم البدائية المتعفّنه ، بنوعيها الحقيقي و الافتراضي.ـ
باعتبار انّي نقرّي نهار الاثنين السّبعه و نص متاع الصّباح ، كنت ديمه عشية الأحد ناخذ " نقل ريفي" ، ونروّح للمدرسة ، باش ناخذ وقتي في تحضير خدمة غدوة بتمارينها و مذكّراتها ، كرّاسات القسم تتصلّح .. الخ
بين عصر و مغرب ، عقاب مارس ، عشيّتها جت مطر بشكل فجئي، اما قويّة برشه
جدّايتي يرحمها ، كان عندها وصف بليغ جدا للمطر القويّة ، كانت تقول : "السّما تقطّعت"، و الا : "السّما تنقبت" .ـ
المطر من النوع هاذاكه تتسمّى باللغة التقليدية "عارض" .. و سي الـ"عارض" هاذا يتميّز بحاجتين : المفاجأة/المباغتة من جيهة ، و القوّة/الغزارة من جيهة اخرى.ـ
نتصوّر ما ثمّاش اشدّ و أخطر من حاجة تجمع بين القوّة و المباغته ، حاجة تـُـربْـكّــِكْ ، من غيرلا مقدّمات و لا مؤشرات باش تتهيّألها نفسيا و ماديا .ـ
العارض ، في مفعولو ، يشبــّه " للــمُـغـِـــيراتِ صـُـبـْـحًا" ههه
لكن وقت اللي نتحدّثو على خطر "العارض" مثلا على السلامة المرورية ، فانّو سياق حديثنا هو المدن ، وين الاكتظاظ و الشوارع الضيقة و التوتّر اللي يعاون على الارتباك ، و بالتالي فقدان السيطرة على الوضع و حدوث الكارثة.
اما وقت اللي نقوللكم اللي العارض هاذا ، كان سبب في وفاة كهل في حادث مرور في ريف ... اينعم .. حادث مرور في ريف .. ريف واااااااسع ... شااااااسع .. محلول .. مسيّب .. عالرابع شيرة
واحد على موبيلات ، و لاخر على دركتور
مولى الموبيلات ، كان يسوق في الاتجاه المعاكس لاتجاه الـ"عارض" يعني "امـْـغـَـنْـبزْ" روحو مليح : شاش ، نظارات هاك اللي يلبسوها الغوّاصين ، كان ديمه يلبسهم حماية لعينيه من الرّيح ، بالطبيعه النظارات مدغدشين و مجرّحين ، بسبب كثرة الاستعمال مع انعدام الصيانة ، مما يحجب عليه الرؤية ، و مفلّس يحب يروّح فيسع قبل ما تزيد تقوى المطرة
مولى الدّركتور ، و بالاضافة لشّاش / اللـّــحـْفه ، زاد كبّ طربوشة القشّابية على راسو ، و مع تقربيع الريموركه القويّ ، ما عادش لا يشوف لا يسمع في شي ، لا قدّامو و لا وراه ، متهنّي انّها البلاد ريف مسيّب ، و ارض ربّي واسعه
يعنى الزوز حواسّ الهامين و اللازمين في السياقة ، و اللي هوما : النظر و السّمع ، و قع الاستغناء عليهم لصالح: الشّاش ، اللّحفه ، طربوشة القشّابية ، الكاسكه ، مرايات الغوّاص المضبّبه .. و غيرها من مبطلات السّمع و البصر
و مع حسّ موتور كل واحد فيهم ، مع حسّ المطر و السّماء اللي باش تطيح منها لقشه
مع الصّدفة اللي جعلت من تقاطعهم الزوز ، ضروري ، مع قلة الانتباه اللي خلات كل واحد فيهم يتصوّر انّو وحدو في البيست هاذيكه
نسمع في العياط ، عياط ماهوش عادي ، و بصوت رجالي ، وقت اللي خرجت باش نشوف اش ثمّة ، و على بعد ثلاثين/اربعين ميترو من الدّار
هنا بالضّبط
نشوف في دركتور حابس ، موبيلات مطيّشه ، جسد ملقى على الارض ، و راجل يستغيث ، و يضرب في روحو بالكف ، و ينقــّز و يتخبّط ... و نتذكّر انّو كان يعاود في كلمة وحده ، في البداية ما ميّزتهاش ، اما كي قربت ، عرفتو يقول : "علاش ؟ " .. "علاش ؟ " ... بصوت مبحوح .. و عينين طايشين .. و وجه شاحب اصفر .. و توتّر و غضب كبير
من غير ما نشعر ، جريت في اتّجاه مكان الحادث ، كنت انا واياه وحّدنا واقفين ، بمعية الجثّة الملقاة ، وقت اللي شافني ماشيلو ، تعرّضني ، و كانّو كان يبحث على شكون يتقاسم معاه الصّدمه .ـ
التوتّر اللي كان عليه ، و العنف اللي كان يميّز حركاتو و نظراتو و صيحاتو ، هوما اللي دفعوه باش يكبس عليّ بعنف اوّل ما وصلتلو ، و يصيح في وجهي نفس كلمتو اللي هول الحادث خلاه يتذكّرها كان هي ّ من الكلام الكل : "علاش ؟" .. "علاش ؟ " . ـ
انا ذهلت من المشهد
احتضنتو بقوّة ، رغم حذري من هيجانو و توتّرو اللي كانو ينجّمو يقودوه لايّ ردّ فعل ، و مع ايّ كان ، و سرّبتلو كليمتين حبيت نخفّفلو بيهم حالة الهستيريا : " نشالة لاباس ، نشالة لاباس ، لعلّ راهو دايخ بركه ، اهدا و وسّع بالك".ـ
و اتّجهت نحو الجثّة المطيــّـشه
المشهد كان فظيع ، عينيه نص محلولين ، اما طافين و مستصـْـفرين ، الفم مفتوح في حياد مدمّر ، قرّبت من وجهو باش نتأكّد منّو يتنفّس و الا لا . ما استحقّيتش باش نتأكّد من انفاسو ، على خاطر مخّو كان يطلّ و يلمّع من تحت التهشيمه اللي في جمجمتو . اش مازال فيها من يتنفس
كانت هاذيكه المرة الثانية اللي نشوف فيها ميت "مقتول" ، المرة الاولى كانت في احداث الخبز في جانفي 1984 ، وقت اللي الجيش "الوطني" تلقّى اوامر باطلاق النار على المتظاهرين ، و ارداهم قتلى
محلاه درويش وقت اللي ينطق على لسان الشهداء وقت اللي يقول : "أنا أوّل القتلى و آخر من يموت"ـ
و الثانية هي هاذي
وجه القتيل ، على عكس ما يـُـتـَـصوّر ، و رغم حياديّة انفعالاته ، اشدّ عمقا من وجوهنا ، ملامحه العامة مزيج من بقايا تعابير الالم مع ابتسانة خفيّة و غامضة ، قد تكون ناتجة عن انّه تذكّر- لحظتها- من يحبّ
انا كنت نظنّ اللي السيد اللي كان يصيح و هايج ، هو سائق الدّركتور ، لكن من بعد عرفت اللي سائق الدركتور لاذ بالفرار ، و هو سلوك طبيعي و حكيــم في الحالات اللي كيما هاذي ، على خاطر اهل القتيل ربما يكون ردّ فعلهم الأني انتقامي و عنيف ، و حتى القانون (في فترة زمنية محددة اثر وقوع الجريمه)ما يحاسبش على ردة الفعل العنيفة ، على ما اظن
تنصبت الخيام ، جات الفنارات و البريميسات ، شعلت النار و طاب العشا ، و فاحت ريحة الكسكسي واللحم المفوّح ، مع ريحة التراب المبلول ، اللي بعد شوي باش يحتضن هالجثّة .. محورهذا اللقاء الليلي الحزيـــــن
المطر لا قصّت ، و لا زادت ، و لا نقصت .. في لامبالاة رهيبة بما حدث و ما سيحدث . بالنسبة ليها ، اش يعني بشر مقتول امام ملايين اليرقات اللي ما صمدتش امام غزارتها و امام قوّة العاصفة المرافقه ليها ، و تحلّت قبل وقتها
ياخي موش موت هاذاكه؟؟؟ بالنسبة للمطر : كيف كيف
اش يعني سقوط بشر امام مليارات النمّال اللي ثلاثة و الا اربعة قطرات منها ، كافية باش ادّمرلهم ديارهم و مونتــْـهم و بيضهم ، و تطيّح عشوش الطيور من على الاغصان و تكسّر مئات العظام اللي ما زالت ما فقّستش ، و الا تقتل ، ببردها، مئات الفروخ اللي مازالو ما عملوش الريش
المطر كانت لامبالية بالنادبات النائحات ، اللي ليله كاملة و هوما ينوحوا على فقيدهم ، باصواتهم اللي رغم كانت مبحوحه و محشرجه ، ما منعهاش هذاكه من التسلل لوذني ، عبر شقايق البرسيان متاع بيتي ، باش تتغلّب على صوت الراديو الصغير اللي كنت ملصّقــو في وذني ، ثماش ما ننسى شويّ صوت النواح و نرقد .
و زيد الديار اللي بانيتهم الدولة للمعلمين في المدارس الريفية ، كانوا اشبه بالعشوش متاع بعض القبائل الاستوائية ، ما خير منهم و ادفا منهم كان
l'igloo
متاع الاسكيمو
طريقة بنيهم و الفينيسيون متاعهم ، الخشب متاع الشبابك و البيبان و الزهازات اللي تترنّخ و ما عادش تسكّر باقل ملامسة ليها مع الماء ، لنستالــّاسيون متاع دورة المياه ، السّطوحات اللي تقطر ، لا وسائل تدفئه ...الخ ...الخ ... الكلّو تعطيك انطباع كبير على شحنات الحب و العطف المتدفّقة من لدن وزارة التربية و التعليم لهالناس اللي من المفروض بعثتهم لاداء اقدس و انبل مهمة في اقسى و اردإ الظروف
يعني من كثر ماهو بـَـنْي راشي ، تقول كان جا ممكن يبنوهم بالقوفرات ، و الا باللــّوقـو ، راهم عملوها
ليلتها كانت الغلبة للحزن ، الحزن كان سيّد الموقف ، خيمة الخيام ، جناح الاجنحه .. الحزن ليلتها كان محتفل ، كنت نشوفلة ينقّز بين سطح الدار ، و سطح المدرسه ، و الساحة / الجنازة .. و يرقص مزهوّا بامتلاكه لتلك الليله بما و من فيها ، و كنت وقت اللي نزيد نلصّق الراديو لوذني باش ما نسمعش اصوات العويل ، نسمعو يقلّي : " دعك من الراديو... الليله ... لا صوت يعلو فوق صوتي"ـ
مـَـوْحشها هاك الليله ، ورغم هاذاكه نسيت كيفاش تعدّت .. نسيت رقدت و الا لا .. نسيت الخيام وقتاش تلمّت .. نسيت وقتاش دفنوه .. الحدث كان مذهل برشه
اما المفاجأة الاخرى اللي كانت في انتظاري يــُـومة غدوه في المدرسة كانت ما تقلّش ثقــل على جنازة البارح
التلامذة كانوا اشدّ ذهول منّي ، باعتبار انهم ينتموا من قريب او من بعيد إمّا الى عائلة المقتول او الى عائلة الـ"قاتل" .. كان للحدث على قلوبهم الصغيرة مفعول الـ"عارص" على الطبيعة الآمنه
لاحظت زوز تلامذة غايبين
وقت اللي سألت عليهم اصحابهم
عرفت اللي هوما : واحد ابن القتيل ... و ... واحد ... ابن الـ " قاتل"ـ
باختصار ، و نتصوّركم تتوقّعو مليح حساسية موقف كيف هاذا ، كانت مهمّتنا ، باقي زملائي و انا ، صعيبه برشه في اعادة بناء ما كان موجود بين الزوز تليمذات هاذومه من جسور الصداقة و المودّة و الانسجام الطفولي ، هالزوز تلامذه اللي ماعادش يجمعهم فقط قسم واحد ، و ربّما مقعد دراسي واحد ، بل بدات تجمع بيناتهم زادا بذرات الحزن و الحقد و الخوف و الحرج ، و اللي لثنين ، ما كانوش ينجحو في تخبيتو اثناء تنافسهم الدراسي ، و الا حتى اثناء اللعـب
باعتبار انّي نقرّي نهار الاثنين السّبعه و نص متاع الصّباح ، كنت ديمه عشية الأحد ناخذ " نقل ريفي" ، ونروّح للمدرسة ، باش ناخذ وقتي في تحضير خدمة غدوة بتمارينها و مذكّراتها ، كرّاسات القسم تتصلّح .. الخ
بين عصر و مغرب ، عقاب مارس ، عشيّتها جت مطر بشكل فجئي، اما قويّة برشه
جدّايتي يرحمها ، كان عندها وصف بليغ جدا للمطر القويّة ، كانت تقول : "السّما تقطّعت"، و الا : "السّما تنقبت" .ـ
المطر من النوع هاذاكه تتسمّى باللغة التقليدية "عارض" .. و سي الـ"عارض" هاذا يتميّز بحاجتين : المفاجأة/المباغتة من جيهة ، و القوّة/الغزارة من جيهة اخرى.ـ
نتصوّر ما ثمّاش اشدّ و أخطر من حاجة تجمع بين القوّة و المباغته ، حاجة تـُـربْـكّــِكْ ، من غيرلا مقدّمات و لا مؤشرات باش تتهيّألها نفسيا و ماديا .ـ
العارض ، في مفعولو ، يشبــّه " للــمُـغـِـــيراتِ صـُـبـْـحًا" ههه
لكن وقت اللي نتحدّثو على خطر "العارض" مثلا على السلامة المرورية ، فانّو سياق حديثنا هو المدن ، وين الاكتظاظ و الشوارع الضيقة و التوتّر اللي يعاون على الارتباك ، و بالتالي فقدان السيطرة على الوضع و حدوث الكارثة.
اما وقت اللي نقوللكم اللي العارض هاذا ، كان سبب في وفاة كهل في حادث مرور في ريف ... اينعم .. حادث مرور في ريف .. ريف واااااااسع ... شااااااسع .. محلول .. مسيّب .. عالرابع شيرة
واحد على موبيلات ، و لاخر على دركتور
مولى الموبيلات ، كان يسوق في الاتجاه المعاكس لاتجاه الـ"عارض" يعني "امـْـغـَـنْـبزْ" روحو مليح : شاش ، نظارات هاك اللي يلبسوها الغوّاصين ، كان ديمه يلبسهم حماية لعينيه من الرّيح ، بالطبيعه النظارات مدغدشين و مجرّحين ، بسبب كثرة الاستعمال مع انعدام الصيانة ، مما يحجب عليه الرؤية ، و مفلّس يحب يروّح فيسع قبل ما تزيد تقوى المطرة
مولى الدّركتور ، و بالاضافة لشّاش / اللـّــحـْفه ، زاد كبّ طربوشة القشّابية على راسو ، و مع تقربيع الريموركه القويّ ، ما عادش لا يشوف لا يسمع في شي ، لا قدّامو و لا وراه ، متهنّي انّها البلاد ريف مسيّب ، و ارض ربّي واسعه
يعنى الزوز حواسّ الهامين و اللازمين في السياقة ، و اللي هوما : النظر و السّمع ، و قع الاستغناء عليهم لصالح: الشّاش ، اللّحفه ، طربوشة القشّابية ، الكاسكه ، مرايات الغوّاص المضبّبه .. و غيرها من مبطلات السّمع و البصر
و مع حسّ موتور كل واحد فيهم ، مع حسّ المطر و السّماء اللي باش تطيح منها لقشه
مع الصّدفة اللي جعلت من تقاطعهم الزوز ، ضروري ، مع قلة الانتباه اللي خلات كل واحد فيهم يتصوّر انّو وحدو في البيست هاذيكه
نسمع في العياط ، عياط ماهوش عادي ، و بصوت رجالي ، وقت اللي خرجت باش نشوف اش ثمّة ، و على بعد ثلاثين/اربعين ميترو من الدّار
هنا بالضّبط
نشوف في دركتور حابس ، موبيلات مطيّشه ، جسد ملقى على الارض ، و راجل يستغيث ، و يضرب في روحو بالكف ، و ينقــّز و يتخبّط ... و نتذكّر انّو كان يعاود في كلمة وحده ، في البداية ما ميّزتهاش ، اما كي قربت ، عرفتو يقول : "علاش ؟ " .. "علاش ؟ " ... بصوت مبحوح .. و عينين طايشين .. و وجه شاحب اصفر .. و توتّر و غضب كبير
من غير ما نشعر ، جريت في اتّجاه مكان الحادث ، كنت انا واياه وحّدنا واقفين ، بمعية الجثّة الملقاة ، وقت اللي شافني ماشيلو ، تعرّضني ، و كانّو كان يبحث على شكون يتقاسم معاه الصّدمه .ـ
التوتّر اللي كان عليه ، و العنف اللي كان يميّز حركاتو و نظراتو و صيحاتو ، هوما اللي دفعوه باش يكبس عليّ بعنف اوّل ما وصلتلو ، و يصيح في وجهي نفس كلمتو اللي هول الحادث خلاه يتذكّرها كان هي ّ من الكلام الكل : "علاش ؟" .. "علاش ؟ " . ـ
انا ذهلت من المشهد
احتضنتو بقوّة ، رغم حذري من هيجانو و توتّرو اللي كانو ينجّمو يقودوه لايّ ردّ فعل ، و مع ايّ كان ، و سرّبتلو كليمتين حبيت نخفّفلو بيهم حالة الهستيريا : " نشالة لاباس ، نشالة لاباس ، لعلّ راهو دايخ بركه ، اهدا و وسّع بالك".ـ
و اتّجهت نحو الجثّة المطيــّـشه
المشهد كان فظيع ، عينيه نص محلولين ، اما طافين و مستصـْـفرين ، الفم مفتوح في حياد مدمّر ، قرّبت من وجهو باش نتأكّد منّو يتنفّس و الا لا . ما استحقّيتش باش نتأكّد من انفاسو ، على خاطر مخّو كان يطلّ و يلمّع من تحت التهشيمه اللي في جمجمتو . اش مازال فيها من يتنفس
كانت هاذيكه المرة الثانية اللي نشوف فيها ميت "مقتول" ، المرة الاولى كانت في احداث الخبز في جانفي 1984 ، وقت اللي الجيش "الوطني" تلقّى اوامر باطلاق النار على المتظاهرين ، و ارداهم قتلى
محلاه درويش وقت اللي ينطق على لسان الشهداء وقت اللي يقول : "أنا أوّل القتلى و آخر من يموت"ـ
و الثانية هي هاذي
وجه القتيل ، على عكس ما يـُـتـَـصوّر ، و رغم حياديّة انفعالاته ، اشدّ عمقا من وجوهنا ، ملامحه العامة مزيج من بقايا تعابير الالم مع ابتسانة خفيّة و غامضة ، قد تكون ناتجة عن انّه تذكّر- لحظتها- من يحبّ
انا كنت نظنّ اللي السيد اللي كان يصيح و هايج ، هو سائق الدّركتور ، لكن من بعد عرفت اللي سائق الدركتور لاذ بالفرار ، و هو سلوك طبيعي و حكيــم في الحالات اللي كيما هاذي ، على خاطر اهل القتيل ربما يكون ردّ فعلهم الأني انتقامي و عنيف ، و حتى القانون (في فترة زمنية محددة اثر وقوع الجريمه)ما يحاسبش على ردة الفعل العنيفة ، على ما اظن
تنصبت الخيام ، جات الفنارات و البريميسات ، شعلت النار و طاب العشا ، و فاحت ريحة الكسكسي واللحم المفوّح ، مع ريحة التراب المبلول ، اللي بعد شوي باش يحتضن هالجثّة .. محورهذا اللقاء الليلي الحزيـــــن
المطر لا قصّت ، و لا زادت ، و لا نقصت .. في لامبالاة رهيبة بما حدث و ما سيحدث . بالنسبة ليها ، اش يعني بشر مقتول امام ملايين اليرقات اللي ما صمدتش امام غزارتها و امام قوّة العاصفة المرافقه ليها ، و تحلّت قبل وقتها
ياخي موش موت هاذاكه؟؟؟ بالنسبة للمطر : كيف كيف
اش يعني سقوط بشر امام مليارات النمّال اللي ثلاثة و الا اربعة قطرات منها ، كافية باش ادّمرلهم ديارهم و مونتــْـهم و بيضهم ، و تطيّح عشوش الطيور من على الاغصان و تكسّر مئات العظام اللي ما زالت ما فقّستش ، و الا تقتل ، ببردها، مئات الفروخ اللي مازالو ما عملوش الريش
المطر كانت لامبالية بالنادبات النائحات ، اللي ليله كاملة و هوما ينوحوا على فقيدهم ، باصواتهم اللي رغم كانت مبحوحه و محشرجه ، ما منعهاش هذاكه من التسلل لوذني ، عبر شقايق البرسيان متاع بيتي ، باش تتغلّب على صوت الراديو الصغير اللي كنت ملصّقــو في وذني ، ثماش ما ننسى شويّ صوت النواح و نرقد .
و زيد الديار اللي بانيتهم الدولة للمعلمين في المدارس الريفية ، كانوا اشبه بالعشوش متاع بعض القبائل الاستوائية ، ما خير منهم و ادفا منهم كان
l'igloo
متاع الاسكيمو
طريقة بنيهم و الفينيسيون متاعهم ، الخشب متاع الشبابك و البيبان و الزهازات اللي تترنّخ و ما عادش تسكّر باقل ملامسة ليها مع الماء ، لنستالــّاسيون متاع دورة المياه ، السّطوحات اللي تقطر ، لا وسائل تدفئه ...الخ ...الخ ... الكلّو تعطيك انطباع كبير على شحنات الحب و العطف المتدفّقة من لدن وزارة التربية و التعليم لهالناس اللي من المفروض بعثتهم لاداء اقدس و انبل مهمة في اقسى و اردإ الظروف
يعني من كثر ماهو بـَـنْي راشي ، تقول كان جا ممكن يبنوهم بالقوفرات ، و الا باللــّوقـو ، راهم عملوها
ليلتها كانت الغلبة للحزن ، الحزن كان سيّد الموقف ، خيمة الخيام ، جناح الاجنحه .. الحزن ليلتها كان محتفل ، كنت نشوفلة ينقّز بين سطح الدار ، و سطح المدرسه ، و الساحة / الجنازة .. و يرقص مزهوّا بامتلاكه لتلك الليله بما و من فيها ، و كنت وقت اللي نزيد نلصّق الراديو لوذني باش ما نسمعش اصوات العويل ، نسمعو يقلّي : " دعك من الراديو... الليله ... لا صوت يعلو فوق صوتي"ـ
مـَـوْحشها هاك الليله ، ورغم هاذاكه نسيت كيفاش تعدّت .. نسيت رقدت و الا لا .. نسيت الخيام وقتاش تلمّت .. نسيت وقتاش دفنوه .. الحدث كان مذهل برشه
اما المفاجأة الاخرى اللي كانت في انتظاري يــُـومة غدوه في المدرسة كانت ما تقلّش ثقــل على جنازة البارح
التلامذة كانوا اشدّ ذهول منّي ، باعتبار انهم ينتموا من قريب او من بعيد إمّا الى عائلة المقتول او الى عائلة الـ"قاتل" .. كان للحدث على قلوبهم الصغيرة مفعول الـ"عارص" على الطبيعة الآمنه
لاحظت زوز تلامذة غايبين
وقت اللي سألت عليهم اصحابهم
عرفت اللي هوما : واحد ابن القتيل ... و ... واحد ... ابن الـ " قاتل"ـ
باختصار ، و نتصوّركم تتوقّعو مليح حساسية موقف كيف هاذا ، كانت مهمّتنا ، باقي زملائي و انا ، صعيبه برشه في اعادة بناء ما كان موجود بين الزوز تليمذات هاذومه من جسور الصداقة و المودّة و الانسجام الطفولي ، هالزوز تلامذه اللي ماعادش يجمعهم فقط قسم واحد ، و ربّما مقعد دراسي واحد ، بل بدات تجمع بيناتهم زادا بذرات الحزن و الحقد و الخوف و الحرج ، و اللي لثنين ، ما كانوش ينجحو في تخبيتو اثناء تنافسهم الدراسي ، و الا حتى اثناء اللعـب